الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: وجملة {إنا كفيناك المستهزئين}تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به، فإن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمّها تعدّد الداخلين في الإسلام في تلك المدّة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدّين مع أن دعوته مخفية، ثم إن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيّأ اعتبارها في علمه تعالى.والتّعبير عنهم بوصف {المستهزئين} إيماء إلى أنّه كفاه استهزاءهم وهو أقلّ أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشدّ من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحْرى.وتأكيد الخبر بـ إنّ لتحقيقه اهتمامًا بشأنه لا للشكّ في تحقّقه.والتّعريف في {المستهزءين} للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزء.وفي التّعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} [سورة آل عمران: 111]، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء.وذلك لطف من الله برسوله.ومعنى الكفاية تولّي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي.يقال: كفيتُ مهمك، فيتعدّى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه.فالأصل أن يكون مصدرًا فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدلّ عليها المقام، فإذا قلت: كفيتك عدوّك، فالمراد: كفيتك بأسه، وإذا قلت: كفيتك غريمك، فالمراد: كفيتك مطالبتَه.فلما قال هنا {كفيناك المستهزئين} فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم.وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم.ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة، كما في الإتقان في ذكر أسماء السور.وعُد من كبرائهم خمسة هم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطّلب، والحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل وهو اسم أمّه دُعِي لها واسم أبيه قيس.وفي الكشاف والقرطبي أنه ابن الطُلاَطِلَة، ومثله في القاموس، وهي بضم الطاء الأولى وكسر الطاء الثّانية والعاصي بن وائل، هلكوا بمكّة متتابعين، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفًا أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عِقدهم.وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيًّا؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فاعتزّ به المسلمون، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلاّ الاستهزاء، ثم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخشيه سفهاء المشركين، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة.ووصفهم بـ {الذين يجعلون مع الله إلها آخر} للتشويه بحالهم، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم ما اقتصروا على الافتراء عليه فقد افتروا على الله.وصيغة المضارع في قوله تعالى: {يجعلون} للإشارة إلى أنهم مستمرون على ذلك مجدّدون له.وفرع على الأمرين الوعيد بقوله تعالى: {فسوف يعلمون}.وحذف مفعول {يعلمون} لدلالة المقام عليه، أي فسوف يعلمون جزاء بهتانهم.{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)}لما كان الوعيد مؤذنًا بإمهالهم قليلًا كما قال تعالى: {ومهّلهم قليلا} [سورة المزمل: 11]. كما دلّ عليه حرف التنفيس في قوله تعالى: {فسوف يعلمون} [سورة الحجر: 96]. طمأن الله نبيه بأنه مطّلع على تحرّجه من أذاهم وبهتانهم من أقوال الشرك وأقوال الاستهزاء فأمره بالثبات والتفويض إلى ربّه لأن الحكمة في إمهالهم، ولذلك افتتحت الجملة بلام القسم وحرف التحقيق.وليس المخاطب ممن يداخله الشكّ في خبر الله تعالى ولكن التحقيق كناية عن الاهتمام بالمخبر وأنه بمحل العناية من الله؛ فالجملة معطوفة على جملة {إنا كفيناك المستهزئين} [سورة الحجر: 95]. أو حال.وضيق الصدر: مجاز عن كدر النفس.وقد تقدّم في قوله تعالى: {وضائق به صدرك} في سورة هود [12].وفرع على جملة {ولقد نعلم} أمره بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عمّا يقولونه من نسبة الشريك، أي عليك بتنزيه ربّك فلا يضرّك شركهم.على أن التسبيح قد يستعمل في معناه الكنائي مع معناه الأصلي فيفيد الإنكار على المشركين فيما يقولون، أي فاقتصر في دفعهم على إنكار كلامهم.وهذا مثل قوله تعالى: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا} [سورة الإسراء: 93].والباء في {بحمد ربك} للمصاحبة.والتقدير: فسبح ربّك بحمده؛ فحُذف من الأول لدلالة الثاني.وتسبيح الله تنزيهه بقول: سُبحان الله.والأمر في {وكن من الساجدين واعبد ربك} مستعملان في طلب الدّوام.و{من الساجدين} أبلغ في الاتّصاف بالسجود من ساجدًا كما تقدم في قوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} في [سورة براءة 119]، وقوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة [67] ونظائرهما.والساجدون: هم المصلّون.فالمعنى: ودم على الصلاة أنتَ ومن معكَ.وليس هذا موضع سجدة من سجود التلاوة عند أحد من فقهاء المسلمين.وفي تفسير القرطبي عن أبي بكر النقاش أن أبا حُذيفة- لعلّه يعني به أبا حذيفة اليمان بن المغيرة البصري من أصحاب عكرمة وكان منكر الحديث- واليمان بن رئاب كذا رأياها سجدةَ تلاوة واجبة.قال ابن العربي: شاهدت الإمام بمحراب زكرياء من البيت المقدس سجد في هذا الموضع حين قراءته في تراويح رمضان وسجدتُ معه فيها.وسجود الإمام عجيب وسجود أبي بكر بن العربي معه أعجب للإجماع؛ على أنه لا سجدة هنا، فالسجود فيها يعدّ زيادة وهي بدعة لا محالة.و{اليقين}: المقطوع به الذي لا شكّ فيه وهو النصر الذي وعده الله به. اهـ..قال الشنقيطي: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه صلى الله عليه وسلم المستهزئين الذين كانوا يستهزون به وهم قوم من قريش، وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم. كقوله في أهل الكتاب: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137]. الآية، وقوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.والمستهزؤو المذكورون: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب.والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ.{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)}ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بما يقول الكفار فيه: من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا شيئًا من ذلك من الأنعام.{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)}أمر جل علا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين: أحدهما- قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك}، والثاني- قوله: {وَكُنْ مِّنَ الساجدين}.وقد كرر تعالى في كتابه الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة، كقوله في الأول: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} [النصر: 3]، وقوله: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وقوله: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار} [غافر: 55]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.واصل التسيبح في اللغة: الإبعاد عن السوء، ومعناه في عرف الشرع: تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، ومعنى سبح: نزه ربك جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: {بحمد ربك} أي في حال كونك متلبسًا بحمد ربك، أي بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال، لأن لفظة {بحمد ربك} أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف وجلال ثابت لله جل وعلا. فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال، لأن الكمال يكون بأمرين: أحدهما- التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، وهذا معنى التسبيح.والثاني- التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد، فتم الثناء بكل كمال، ولأج هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللَّسان، ثقيلتان في الميزام، حبيبتان إلى الرَّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، وكقوله في الثاني وهو السجود: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} [العلق: 19]، وقوله: {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة.وقالت جماعة من العلماء: المراد بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي صل له، وعليه فقوله: {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} من عطف الخاص على العام والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنهى التقديس، وعلى كل حال فالمراد بقوله: {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} اي من المصلين، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به، ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء. خلافًا لمن زعم أنه موضع سجود.قال القرطبي في تفسيره: قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع، وسجدت معه فيه، ولم يره جماهير العلماء.قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش ان هاهنا سجدة عند ابي حذيفة ويمان بن رئاب ورأى أنها واجبة- انتهى كلام القرطبي، وقد تقدم معنى السجود في سورة الرعد.وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هوعطف الخاص على العام هو أهمية السجود، لأن اقرب ما يكون العبد من ربه في حال كونه في السجود.قال مسلم في صحيحه: حدثنا هارون بن معروف، وعمرو بن سواد قالا: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سمي مولى أبي بكر، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».تنبيه:اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولان له من السوء- دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]. الآية.ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث نعيم بن همار رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أني يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها.
|